عُرف الألماني فردريك نيتشه باعتباره أحد الفلاسفة المؤثرين في زمنه وما تلاه، وكان في الوقت ذاته شاعراً من طراز مختلف، يمزج رؤاه الشعرية بما يحمله من أفكار فلسفية تعكس تمجيد القوة، وتقديس الجمال والفن، باعتبارها السمات الأساسية في الإنسان الأعلى، الذي يجتاز مواصفات الإنسان العادي، ويحمل ما يؤهله ليكون كائناً مبجّلاً، متجاوزاً لزمنه وموضعه.
يقع نيتشه في المنطقة المحظورة من الأدمغة البشرية، إذ لا يمكن لمن اعتاد القبول بالمسلّمات، واعتمد التلقي منهجية بديلة عن التفكير أن يستوعب فكراً ناقداً يحمل هذه الدرجة من الحدّية والصدام، ما يعني قطيعة مبكرة بين هذا الفكر، وبين الرغبة في تجديد الذهنية، وتوسعة قدرتها على النقاش والجدل، فالذين يركنون إلى الإجابات الجاهزة، والأفكار المعدّة مسبقاً، يكنّون عداوة مفرطة لكل ما من شأنه إيقاظ حس الشك والسؤال، وفتْح الباب أمام معتقدات يظن حاملوها أنها آخر ما أنجبه العالم من أفكار.
إن السبب في انتشار نيتشه، وأفكاره بالشكل الذي هو عليه، يعود إلى عراكه حتى الجنون والموت، ضدّ كل ما هو سائد من القيم الرتيبة، ونبذه لها، ما ساعد في وصولها إلى الناس، بغض النظر عن رفضها، وخشية الخوض فيها، وتكمن خطورة انتشار أفكاره على هذه العقول الكسولة، في كونه يدفع بها لتحمل المسؤولية، والمجازفة بأمنها الفكري والعقَديّ، وزعزعة ما تشبث بهم من الأفكار التربوية التقليدية.
ولعل أفكاراً من قبيل تمجيد الفرد، ونبذ الأخلاق بقوالبها الاجتماعية المزدوجة، والأخلاقياتِ المتسامحة مع الضعف والهشاشة، قد تدفع مجتمعات بكاملها إلى الانتفاض ضدها، ونبذ صاحبها، ومن يتقاطعون معه في قبولها والعمل بها، ومن شأنها كذلك أن تخرج مارد الجهل من قمقمه، لتصدّ به ما يمس جوهر خوفها، ويعيد إليها طمأنينتها التي تُنتزع بأي محاولة لتمرين الوعي، أو استعادته، ولعل كتابه الأشهر "هكذا تكلم زرادشت" يمثل - مع ما وصل إلينا من بقية نتاجه الفكريّ - نموذجاً فعالاً للصدمة، التي يمكن أن تحدثها فكرة جديدة لدى جمهور لم يعتد سوى تكرار ما حصده من العلوم البدائية، إذ يصدم القارئ من بدايته بالنظرية التي ارتكزت عليها جل كتبه لاحقاً، وبنى من فكرة "السوبرمان" أيقونة تمثل طموحه الشخصي الإنساني، وبين عنصرية الفكرة وجمالها، يبقى الحكم عليها للأرواح الحرة التي امتدحها نيتشه.