رحلة ريتشارد رايت مع الأدب

11 سبتمبر 2024
دار ميلاد
رحلة ريتشارد رايت مع الأدب

إلى سنوات قليلة كان الكاتب ريتشارد رايت، الأميركي ثم الفرنسي بعد لجوئه إلى فرنسا وإقامته فيها نهاية حياته هرباً من اضطهاد مثلث في بلاده، منسياً تماماً حتى وإن كانت كتبه الرئيسة ظلت في البال، وفي مقدمتها "ابن البلد" و"اللامنتمي". فالحال أن أموراً كثيرة كانت تبدلت منذ بداية عقد الستينيات حين رحل هذا الكاتب الأميركي - الأفريقي، وهو بعد في الثانية والخمسين من عمره. كما أن مبارحته الولايات المتحدة باكراً تحت ضغط الماكارثية إضافة إلى خلافه في نهاية الأمر مع الحزب الشيوعي الأميركي الذي كان من محبذيه، ثم رفضه أن يسير حذو بقية الشيوعيين السابقين منضماً إلى منظمة حرية الثقافة لأنها، بحسب رأيه المبكر الذي صار يقيناً في ما بعد، مجرد فرع من فروع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، كل هذا أسهم في وهدة النسيان التي رمي فيها.


إذا أضفنا إلى هذا أن أميركيين - أفارقة كثراً ملأوا الساحة الثقافية الأميركية من بعده، تبدوا أكثر جذرية منه، يمكننا أن نفهم غياب اسمه عقوداً طويلة. ولكن اليوم، بعد أن ترسخت طوني موريسون باعتبارها الأديبة الأميركية الأكبر وبعد استعادة ذكرى كل الكتاب السود من خلالها ثم منذ ترشيح باراك أوباما، ثم انتصاره كأول رئيس أميركي - أفريقي للولايات المتحدة، كان من الطبيعي أن يعود ذكر ريتشارد رايت بقوة، كما من الطبيعي أن نتوقع إعادة اعتبار قوية له في الولايات المتحدة، وكذلك أيضاً في فرنسا، التي أعطته جنسيتها عام 1946، في وقت كان انضم إلى التيار الوجودي اليساري وصار صديقاً مقرباً لجان بول سارتر وألبير كامو.


تسييس الأدب الرفيع


والحقيقة أن ريتشارد رايت منذ أقام في فرنسا راح ينشط في اتجاهات عدة، لعل من أهمها بالنسبة إليه شخصياً، رفد الأدب الوجودي بمناخ نضالي كتابي حقيقي، صحيح أن الأدب الوجودي، الفرنسي بخاصة، في تجلياته الكبرى لم يقصر في دعم حركات التحرر الوطني التي أدت إلى استقلال بلدان عدة في آسيا وأفريقيا، لكن ما راح رايت يسعى إليه كان أكثر من المواقف النظرية الأيديولوجية التي عرف سارتر وكامو كيف يعبران عنها.


كان ما يتطلع إليه التسييس الفعال للمواقف الوجودية حتى تبارح الدراسات العميقة وحوارات المسرحيات إلى أماكن الأحداث الحقيقية. ومن هنا تنوعت مواقف رايت من المرور بالانجذاب إلى حيز الحياد الإيجابي، وصولاً إلى مناصرة مؤتمرات مثل باندونغ، بالتالي الارتباط بصداقات مع كبار وجوه حركات التحرر الوطني الاستقلالي في ذلك الحين. وكان على رأس هؤلاء يومها كوامي نكروما، الزعيم الوطني والأسطورة للدولة التي صار اسمها منذ حصولها على الاستقلال: غانا.



ومن هنا كان طبيعياً لريتشارد رايت أن يخص غانا ونكروما، بكتاب يمكن أن ننظر إليه اليوم، مع مرور الزمن، بوصفه نصاً مميزاً في الكتابة السياسية، وعملاً نظرياً يتحدث بدقة وكرم، عن بدايات الحركات الاستقلالية طارحاً أفكاراً لو طبقت لكان من شأنها أن تقي الاستقلالات المهاوي التي وقعت فيها ودمرتها، جاعلة كثراً من الناس يترحمون على عهود الاستعمار.


رحل باكراً


طبعاً، لم يكن من شأن كاتب ومناضل مثل ريتشارد رايت، أن يكون واحداً من أولئك المترحمين، وربما لأن القدر أماته باكراً، أي قبل أن تتكشف العورات، ويحل التطرف محل العقل والهزائم محل الانتصارات، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع.


في كتاب رايت الذي نتحدث عنه هنا وعنوانه "القوة السوداء" يجري الحديث في اتجاه آخر تماماً. في اتجاه الأمل وتوقعات الغد المشرق، من دون أن تغرب عن بال الكاتب ضرورة التنبه والتفحص العقلاني قبل الإقدام على أية خطوة من الخطوات. في هذا الإطار، يمكننا أن نضع ريتشارد رايت في صف واحد مع فرانز فانون، ذي الأصل الأفريقي بدوره. فهما معاً كانا من الذين يرون باكراً ما لا يراه الآخرون، إلا متأخرين، وينبهون قبل أن يصبح الندم سيد الموقف. ونحن بهذا الكلام نبدو وكأننا نختصر الموضوعية الجوهرية لكتاب "القوة السوداء" الذي يبدو اليوم منسياً تماماً.



صحيفة الاندبندنت العربية